كانت حال أبي محمد المهلبي (1) ، قبل اتصاله بالسلطان، حالَ ضعفٍ وقلة، وكان يقاسي منه قذى عينيه وشجى صدره، فبينا هو في بعض أسفاره مع رفيق له من أصحاب الحرث والمحراث (2) ، إلا أنه من أهل الأدب، إذ لقي من سفره نَصَبَاً فقال ارتجالاً:
ألا موتٌ يُباعُ فأشتريه *** فهذا العيشُ ما لا خَيرَ فيهِ
ألا موتٌ لذيذُ الطعمِ يأتي *** يُخَلِّصَنِي من العيشِ الكَريهِ
إذا أبصرتُ قبراً مِن بعيدٍ *** وددتُ لو أنني مما يليهِ
ألا رَحِمَ المهيمنُ نَفْسَ حُرٍ *** تصدَّقَ بالوفاةِ على أخيهِ !
فرثى له رفيقه وأحضر له بدرهم ما سكنه، وتحفظ الأبيات، وتفارقا، فترقت حال المهلبي إلى الوزارة، وأخنى الدهر على ذلك الرجل الذي كان رفيقه، وضاقت به الأحوال ، فقصده، وتوصَّل إلى إيصال رقعةٍ إليه مكتوب فيها :
ألا قل للوزير فدته نفسي *** مقال مُذَكِّرٍ ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لضنك عيشٍ *** ألا موت يباع فأشتريه؟
فلما قرأ الرقعة تذكره، وهزته أريحية الكرم، فأمر له في عاجل الحال بسبعمائة درهم، ووقع تحت رقعته: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾[البقرة : 261] ، ثم قلَّده عملاً يرتفق به ويرتزق منه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوزير المهلبي (291 - 352 هـ / 903 - 963 م ) الحسن بن محمد بن عبد الله بن هارون، من ولد المهلب بن أبي صفرة الأزدي، أبو محمد. من كبار الوزراء الأدباء الشعراء، اتصل بمعز الدولة بن بويه فكان كاتباً في ديوانه، ثم استوزره، وكانت الخلافة للمطيع العباسي، فقربه المطيع، وخلع عليه، ثم لقبه بالوزارة، فاجتمعت له وزارة الخليفة ووزارة السلطان، ولقب بذي الوزارتين، وكان من رجال العالم حزماً ودهاءً وكرماً وشهامة. له شعر رقيق، مع فصاحة بالفارسية، وعلم برسوم الوزارة، ولد بالبصرة، وتوفي في طريق واسط، وحُمل إلى بغداد.
(2) في " الوافي بالوفيات ": وكان معه رفيق يقال له: أبو عبد الله الصوفي، وقيل:أبو الحسن العسقلاني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق