[ انعقدت بين الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ العلامة محمد الخضر حسين -1293-1377هـ - صداقة عظيمة تعد مثالاً رائعاً في صدق المودة، ورعاية الحقوق، ورقة الشعور، وحسن التذمم والوفاء، وحرارة الأشواق ونحو ذلك من المعاني الجميلة؛ فلقد كانا قرينين في طلب العلم بجامع الزيتونة، وبينهما من العمر أربع سنوات ...
ولقد تعرفا على بعض في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، واستمرت صداقتهما إلى أن فارق الخضر الدنيا عام 1377 هـ..
وأما الطاهر فعاش إلى عام 1393 هـ حيث عُمِّر سبعاً وتسعين سنة.
ولقد فَرَّق الاستعمار بينهما، حيث حكم على الشيخ الخضر بالإعدام والجلاء، فخرج من تونس عام 1331 هـ وتقلَّب في عدد من البلاد ومات في مصر.
وكان كثيراً ما يكاتب الطاهر، ويرد على كتاباته، ويبعث إليه أشواقه، وتحاياه، وتهانيه إذا ما تقلد منصباً.
وهذه نماذج مختارة مما كان بينهما من مودة ومكاتبات.
قصيدة بعنوان (عواطف الصداقة).
بعد هجرة الشيخ الخضر من تونس عام 1331 بعث إليه صديقه محمد الطاهر بن عاشور وهو كبير القضاة بتونس رسالة مصدرة بالأبيات التالية :
بَعُدْتَ ونفسي في لقاك تصيدُ....فلم يُغِنِ عنها في الحنان قصيد
وخلَّفت ما بين الجوانح غصة....لها بين أحشاء الضلوع وقود
وأضحتْ أمانيْ القرب منك ضئيلةً....ومرُّ الليالي ضعفها سيزيد
أتذكر إذ ودَّعْتنا صبحَ ليلةٍ....يموج بها أنسٌ لنا وبرودُ
وهل كان ذا رمزاً لتوديع أنسنا....وهل بعد هذا البين سوف يعود
ألم ترَ هذا الدهر كيف تلاعبت....أصابعه بالدر وهو نضيد
إذا ذكروا للود شخصاً محافظاً....تجلى لنا مرآك وهو بعيدُ
إذا قيل: مَنْ للعلم والفكر والتقى....ذكرتُك إيقاناً بأَنْكَ فريد
فقل لليالي: جَدِّدي من نظامنا....فحسبك ما قد كان فهو شديد
ثم كتب تحت هذه الأبيات:
(هذه كلمات جاشت بها النفس الآن عند إرادة الكتابة إليكم، فأبثها على عِلاتها، وهي وإن لم يكن لها رونق البلاغة والفصاحة فإن الود والإخاء والوجدان النفسي يترقرق في أعماقها).
ولما وصلت تلك الرسالة إلى الشيخ محمد الخضر حسين أجاب بالأبيات التالية:
أينعم لي بالٌ وأنت بعيد * وأسلو بطيف والمنام شريد
إذا أجَّجتْ ذكراك شوقيَ أُخْضِلَتْ * لعمري بدمع المقلتين خدود
بَعُدْتُ وآمادُ الحياة كثيرةٌ * وللأمد الأسمى عليَّ عهود
بعدت بجثماني وروحي رهينةٌ * لديك وللودِّ الصميم قيود
عرفتُك إذ زرتُ الوزير وقـد حنا * عليَّ بإقبال وأنت شهيد
فكان غروبُ الشمس فجْرَ صداقةٍ * لها بين أحناء الضلوع خلود
لقيت الودادَ الحرَّ من قلب ماجدٍ * وأصدق من يُصْفي الوداد مجيد
ألم تَرْمِ للإصلاح عن قوس نافذٍ * درى كيف يُرعى طارفٌ وتليدُ
وقمتَ على الآداب تحمي قديمها * مخافةَ أن يطغى عليه جديد
أتذكر إذ كنا نباكر معهداً * حُميَّاه عِلْمٌ والسقاة أسود
أتذكر إذ كنا قرينين عندما * يحين صدورٌ أو يحين ورود
فأين ليالينا وأسمارها التي * تُبلُّ بها عند الظماء كبودُ
ليالٍ قضيناها بتونسَ ليتها * تعود وجيش الغاصبين طريد
وهذه مقطوعة عنوانها (الوفاء بعهد الصداقة)، وقد قالها الشيخ الخضر عندما سأله بعض الأدباء: كيف كانت صلتكم بالشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تونس؛ فأجابه بهذه الأبيات:
أحببتُه ملءَ الفؤاد وإنما.....أحببت من ملأ الودادُ فؤادَهُ
فظفرتُ منه بصاحبٍ إن يدرِ ما....أشكوه جافى ما شكوتُ رقادَه
ودريت منه كما درى مني فتىً....عرف الوفاء نجاده ووهادَه
وهذه مقطوعة عنوانها (برقية الشوق)، قالها الشيخ محمد الخضر أثناء رجوعه من الآستانة إلى تونس سنة 1330 هـ، وقد مرت به الباخرة بالقرب من شاطئ (المرسى) حيث كان يقيم صديقه العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور:
قلبي يحيِّيك إذ مرت سفينتنا....... تُجاه واديك والأمواج تلتطم
تحيةً أبرق الشوق الشديد بها.... في سلكِ ودٍّ بأقصى الروح ينتظم
....................................
د- محمد بن إبراهيم الحمد.
رحم الله علماءنا و مشائخنا جميعا.
ردحذفالجدير بالذكر أن العلامة محمد الخضر حسين ثم اختياره شيخا للجامع الأزهر بمصر في 26 ذي الحجة 1371هـ واستقال في 2 جمادى الأولى 1373 هـ احتجاجا على دمج القضاء الشرعي مع القضاء المدني.
قد قال الشيخ العلامة الأستاذ محمد الفاضل بن عاشور التونسي عند اختيار الشيخ محمد الخضر شيخاً للأزهر: "ليحق لهذه الحقبة من التاريخ التي تُظِلُّنا أن تفخر بأنها بلغت فيها الصِلات بين الأزهر والزيتونة أوجها؛ فقد احتضن الأزهر إماماً من أئمة الأعلام، كان أحد شيوخ الزيتونة العظام".
وقد أحسنت مصر وفادته منذ نـزل إليها سنة وتجنس بجنسيتها وبقي فيها إلى وفاته، ودفن فيها.