الثلاثاء، 8 مايو 2012

لَـيْسَ الخَـبَرُ كَالـمُعَايَنَة

لَـيْسَ الخَـبَرُ كَالـمُعَايَنَة

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين


- إذا أراد الإنسان أن يوصل خبرا مهما ونبأ ملما إلى قلب صاحبه أو ذهن سامعه , سواء كان الخبر تظلما و شكوى , أو عظة وذكرى , فإنه يستعمل في كلامه الفصاحة والبلاغة , عن طريق أجمل العبارات وألطف الكلمات , ويستعمل في خطابه الصور البيانية والمحسنات البديعية , و هدف المتكلم أن تصل الفكرة تامة كاملة كافية وافية دونما نقصان , في قوالب حِسان , بأدلةٍ وحجةٍ وبرهان كي تصل إلى الأفهام , ولتكون النفس أدعى لقبول الكلام , و أن يصل المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ . لكن الحقيقة أن مع كل تلك البلاغة والمحاولة في تقريب المعنى , و التشبيه البليغ , إلا أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يعيش السامع الواقعة أو الحادثة كما عايشها المتكلم , لأنه ولج أبوابها ودق ناقوسها, وعاين أحداثها ,فشتان بين الأمرين وفرق بينهما كالفرق بين المشرقين ، ولهذا يقول سيد الثقلين عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عباس رضي الله عنهما :( ليس الخبر كالمعاينة ) [1]هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه ويسلم جمع أروع المعاني السامية عبارة قليلة الألفاظ كثيرة المعاني، يتجلى فيها الإيجاز في أروع صوره، وأجمل عبارة , وجوامع الكلم من مفاخر نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ إذ خص بها دون سواه من الأنبياء والمرسلين، بل من البشر أجمعين. وقد أولى جوامع الكلم علماء البلاغة الكثير من العناية , وبلاغة النبي صلى الله عليه وسلم من أبرز مظاهر عظمته ، وأجلى دلائل نبوته ، فهو عليه الصلاة والسلام صاحب اللسان المبين والمنطق المستقيم ، والحكمة البالغة والكلمة الصادقة ، والمعجزة الخالدة وقد زكى الله تعالى نطقه فقال عز وجل :
" وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى " (النجم3-4) . وقال سبحانه :" نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ .عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ "(الشعراء193-195) .
- وقوله [ ليس الخبر كالمعاينة ] عبارة تتجلى معناها في كثير من المواضع والوقائع التي عشتها أنا أو أنت أو غيرنا , فإذا شكوت لصاحبك ما تعانيه وما يمر عليك إذا أصابتك مصيبة وداهية وبلاء , وكنت مكلوما مهموما فقد يواسيك صاحبك , لكنه لن يشعر بشعورك أبدا ولن يقاسي ما تقاسيه , فليس المخبر كالمعاين , ويصدق فيه قول الحكمة والمثل المنتشر في مجتمعنا [ لا يحس بالجمر إلا من اكتوى به ]وكذلك الفقير الذي يهتم و يغتم بفقره , ويعيش معه كل ثانية وتراه حزينا مكلوما فإنه لو شكا إليك فاقته وما يجده ستحزن لحاله , لكن لا تشعر بشعوره وبمجرد أن تفارقه ستنساه وتنسى همه , لأنك لا تعيش فقره وكذلك المريض الذي يشكو الضرر والألم لن تشاركه في ضرره ولا في ألمه ولن تشعر أو تحس كما يشعر ويحس هو ,
وكما قيل [ الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى ] ولا يعلم الراكب مشقة الراجل إلا إذا ترجّل , وليس عين اليقين كخبر اليقين .

قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله –:

[ عين اليقين أقوى من خبر اليقين؛ لقوله تعالى: { أرني كيف تحيي الموتى }؛ لأن إبراهيم عليه السلام عنده خبر اليقين بأن الله قادر؛ لكن يريد عين اليقين؛ ولهذا جاء في الحديث: «ليس الخبر كالمعاينة»؛ وقد ذكر العلماء أن اليقين ثلاث درجات: علم؛ وعين؛ وحق؛ كلها موجودة في القرآن؛ مثال «علم اليقين» قوله تعالى: {كلا لو تعلمون علم اليقين} [التكاثر: 5] ؛ ومثال «عين اليقين» قوله تعالى: {ثم لترونها عين اليقين} [التكاثر: 7] ؛ ومثال «حق اليقين» قوله تعالى: {إن هذا لهو حق اليقين} [الواقعة: 56] ؛ نضرب مثالاً يوضح الأمر: قلت: إن معي تفاحة حلوة - وأنا عندك ثقة؛ فهذا علم اليقين: فإنك علمت الآن أن معي تفاحة حلوة؛ فأخرجتُها من جيبي، وقلت: هذه التفاحة؛ فهذا عين اليقين؛ ثم أعطيتك إياها، وأكلتَها وإذا هي حلوة؛ هذا حق اليقين.[2]

وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثالا عن قوله :( ليس الخبر كالمعاينة ) بموسى عليه السلام فقال :( إن الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت )[1]

قال ابن القيم رحمه الله - : (( فلما قدم موسى عليه السلام ورأى ما أصاب قومه من الفتنة اشتد غضبه وألقى الألواح عن رأسه وفيها كلام الله الذي كتبه له، وأخذ برأس أخيه ولحيته، ولم يعتب الله عليه في ذلك لأنه حمله عليه الغضب لله، وكان الله عز وجل قد أعلمه بفتنة قومه، ولكن لما رأى الحال مشاهدة حدث له غضب آخر فإنه ليس الخبر كالمعاينة ))[3]

وكذلك ضرب مثالا غير مباشر فقال: ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولذهبتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ) [4] .
ونتساءل: لِمَ ؟ نقول : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد الجنة، وشاهد النار، وشاهد ما أعد الله لأوليائه، وما أعد الله لأعدائه ونحن سمعنا وآمنا وما رأينا ولو رأينا لكان عين اليقين ولكان ما قاله الصادق الأمين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم .

وقال القرطبي رحمه الله :

"وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ) : يعني ما يعلم هو من أمور الآخرة وشدة أهوالها ، ومما أعد في النار من عذابها وأنكالها ، ومما أعد في الجنة من نعيمها وثوابها ، فإنه
صلى الله عليه وسلم قد كان رأى كل ذلك مشاهدة وتحقيقا ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان ، قليل الضحك ، جُلُّه التبسم" انتهى . [5]

ومما يدلنا على أن الأمر المشاهد له أثر عظيم على النفس ما جاء في " الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : [ إنَّ لله ملائكةً يطوفونَ في الطُّرق ، يلتمِسُون أهلَ الذِّكر ، فإذا وجدُوا قوماً يذكرون الله - عز وجل - ، تنادوا : هلمُّوا إلى حاجتكم ، فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السَّماء الدُّنيا ، فيسألهُم ربُّهم - وهو أعلمُ بهم - : ما يقول عبادي ؟ قال : يقولون : يسبِّحُونَك ، ويكبِّرونك ، ويحمَدُونك ، ويمجِّدونَك ، فيقول : هل رأوني ؟ فيقولون : لا والله ما رأوْكَ ، فيقول : كيف لو رأوني ؟ فيقولون : لو رأوك ، كانوا أشدَّ لك عبادة ، وأشدَّ لكَ تمجيداً وتحميداً ، وأكثر لك تسبيحاً ، فيقول : فما يسألوني ؟ قالوا : يسألونك الجنَّة ، فيقول : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا والله يا ربِّ ، ما رأوها ، فيقول : كيف لو أنَّهم رأوها ؟ فيقولون : لو أنَّهم رأوها ، كانوا أشدَّ عليه حرصاً وأشدَّ لها طلباً ، وأشدّ فيها رغبةً ، قال : فممَّ يتعوَّذونَ ؟ فيقولون : من النَّار ، قال : يقول : فهل رأوها ؟ فيقولون : لا والله يا ربِّ ما رأوها ، فيقول : كيف لو رأوها ؟ فيقولون : لو أنَّهم رأوها ، كانوا أشدَّ منها فراراً ، وأشدّ لها مخافةً ، فيقول الله تعالى : أُشهِدُكم أنِّي قد غفرتُ لهم ، فيقول ملك من الملائكة : فيهم فلانٌ ليس منهم ، إنَّما جاء لحاجته ، قال : هُمُ الجلساءُ لا يشقى بهم جليسهم ] [6]

فهذا الحديث العظيم الجليل من ربّنا سبحانه وتعالى بيّن ووضح الفرق بين الخبر والمعاينة حين قال : [ كيف لو رأوها ] ففرّقَ بين من رأى ومن سمع واُخبر وأن من رأى سيكون أبلغ في الوصف و التعامل مع المرئي , كمن رأى مثلا ما أعده الله من نعيم سيعمل ويجتهد كي ينال هذا المراد العظيم و يدخل جنات النعيم غير أن الله أخفى ذلك لحكمة وهي أن يعبده الناس حق عبادته , ويأتمرون بما أمر وينتهون عما نهى عنه وزجر وأن يُعبد بما شرع , ولو أنه كان ظاهراً لم يكن للإيمان به مزية لأنه يكون مشاهداً لا يمكن إنكاره ، ثم إنه قد يحمل الناس على أن يؤمنوا كلهم لقوله تعالى : ( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده ) غافر / 84 .


ـــــــــــــ

[1] ( صحيح ) انظر حديث رقم : 5374 في صحيح الجامع .
[2] تفسير القرآن للشيخ محمد العثيمين – رحمه الله – ص:5/239 .
[3] إغاثة اللهفان - جزء 2 - صفحة 305.
[4]( صحيح ) انظر حديث رقم : 5263 في صحيح الجامع .
[5] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (2/557) .
[6] صحيح البخاري 8/107 ( 6408 ) ، وصحيح مسلم 8/68 ( 2689 ).




كتبه : أبو أسامة إبراهيم الديلـمي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حديث اليوم

 
© 2009/ 11/25 *هذاالقالب من تصميمى * ورود الحق