قال العلامة محمد صديق حسن خان القنوجي - رحمه الله - [ت 1307]:
(( وإنّما يعرف الحقّ من جمع خمسة أوصاف أعظمها: الإخلاص، والفهم، والإنصاف، ورابعها - وهو أقلّها وجوداً، وأكثرها فقداناً -: الحرص على معرفة الحقّ، وشدّة الدّعوة إلى ذلك والبدع والمحدثات قد كثرت، وقد عمت البلوى بالإشراك بها، وكثر الدعاء إليها، والتعويل عليها، وطلاب الحق اليوم شبه طلابه في أيام الفترة؛ وهم سلمان الفارسي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأضرابهما؛ فإنهم قدوة لطالب الحق، وفيهم له أعظم أسوة؛ لما حرصوا على الحق، وبذلوا الجهد في طلبه؛ حتى بلغهم الله إليه، وأوقفهم عليه، وفازوا من بين العوالم الجمة.
فكم أدرك الحقَّ طالبُه في زمن الفترة، وكم عمي عنه من طلبه في زمن النبوة؛ فاعتبر بذلك، واقتد بأولئك الكرام؛ فإن الحق ما زال مصونا عزيزا نفيسا كريماً؛ لا ينال مع الإضراب عن طلبه، وعدم التشوق والإشراف إلى سببه، ولا يهجم على البطالين المعرضين، ولا يناجي أشباه الأنعام الضالين.
ما أعظم المصاب بالغفلة، والاغترار بطول المهلة؛ فليعرف مريد الحق قدر ما هو طالبه، فإنه طالب لأعلى المراتب؛ {وَمَنْ أرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء : 19]، {خُذُوا مَا ءَاتَيْنَكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} [البقرة : 63]؛ فليس في الوجود بأسره أعز من الإيمان بالله - تعالى - وكتبه ورسله، ومتابعتهم، ومعرفة ما جاءوا به؛ ولا تطلب ذلك أهون الطلب؛ فإن طلبة الدنيا وزخارفها الفانية يرتكبون الأخطار والمتالف الكبار، وينفق أحدهم غضارة عمره، ونضارة شبابه، وإبّان أيامه؛ فيها؛ وهي لا تحْصُل لهم على حسب المراد؛ فكيف بما هو أبقى وخير منها! ولم يرفعوا له رأساً ولم يبنوا له أساساً!
وإنما أطلنا القول لأني أعلم بالضرورة - في نفسي وغيري - أن جهل الحقائقِ أكثرِها إنما سببه عدم الاهتمام بمعرفتها على الإنصافِ وتركِ الاعتساف، لا عدم الفهم والإدراك؛ فإن من اهتم بشيء أدركه؛ فكيف لا يفهم طالب الحق مقاصد الأنبياء والمرسلين والسلف الصالحين؛ مع الاهتمام فيه، وبذل الجهد فيه، وحسن القصد، ولطف أرحم الراحمين!
ولا ينبغي لطالب الحق والصواب أن يصغي إلى من يصده عن كتب الله وما أنزل فيها من الهدى والنور والرحمة لطفًا للمؤمنين ونعمة للشاكرين، وليحذر كل الحذر من زخرفتهم وتشكيكهم، وليعتبر بقول الله لرسوله المعصوم: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء : 73]؛ ويالها من موعظة موقظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ولا يستوحش من ظفر بالحق بكثرة المخالفين، وليُوَطِّن نفسه على الصبر واليقين. نسأل الله - تعالى - أن يرحم غربتنا في الحق، ويهدي ضالنا، ولا يرُدَّنا عن أبواب رجائه ودعائه وطلبه ورحمته محرومين.
وخامسها - وهو أصعبها -: المشاركة في العلم والتمييز والفهم والدراية؛ حتى يتمكن من معرفة الحق ومقدار ما يقف عليه؛ فيرغب فيه من غير تقليد؛ لأنه لا يعرف المقادير إلا ذو بصر نافذ، وفهم ماض؛ فإن عرضت له محنة، لم يتطير بطلب الحق، فيكون ممن يعبد الله على حرف، وليثق بمواعيد الله وقرب الفرج قال تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل : 79]، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَـنَّـكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِـنُونَ} [الروم : 60]؛ وليعلم يقيناً أنه - تعالى - مع الصابرين والصادقين والمحسنين، وأن الله سبحانه ناصر من ينصره، وذاكر من يذكره، وإن سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأمور عائد على متبعيه، ونصر الله شامل لناصريه.
وقد أمر الله تعالى بالمعاونة على البر والتقوى، وصح الترغيب في الدعاء إلى الحق والخير، وأن الداعي إلى ذلك يؤتى مثل أجور من اتبعه، ومن أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعاً، ومن أمر بالصلاح والإصلاح؛ ابتغاء مرضات الله؛ فسوف يؤتيه أجراً عظيماً.
وفي سورة العصر قصر السلامة من الخسر على الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر. {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَلِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت : 33].
وأنا أستغفر الله، وأساله التجاوز عني والمسامحة في كل ما أخطأت؛ فإني محل الخطأ والغلط وأهله، وهو - سبحانه - أهل التقوى، والمغفرة، والسعة، والمسامحة، والغنى الأعظم والكرم الأكبر عن مضايقة المساكين والجاهلين؛ إذْ كان الله - سبحانه وتعالى - غنياً عن عرفان العارفين، غير متضررٍ بجهل الجاهلين.
وآخر كلامي كأوله: أن الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على محمد سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وشفيع المذنبين، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الراشدين المهديين إلى يوم الدين )).
"قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق